معضلة التنمية في سهل البقاع أسبابها التاريخية ووجوه علاجها
تصغير الخط
تكبير الخط
طباعة الصفحة
  
 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمةٌ في معضلة التنمية في سهل البقاع

أسبابها التاريخية ووجوه علاجها

( تمهيـد )

من الثابـت أن "سهل البقاع" كان في ماضي أيامه الطويلة من أخصب الأراضي  المُنتجة للغـذاء في المنطقة الشاميّة كلّها وأكثرها إنتاجاً . خصوصاً إنتاج الأغذية الزراعية والحيوانية وتصنيعها . وألبان "بعلبك" ، وخصوصاً أجبانه الطيّبة ، التي تُنتجها قطعان الماعز ، ومراعيها الخصبة النظيفة في السفوح المجاورة ، مذكورة في أدبيات ترجع إلى ألفي سنة تقريباً . كما أن أعنابه وفاكهته ، وخصوصاً المشمش ، وضروب تصنيعها المُتنوّعة ، معروفة ومذكورة في أدبيات كثيرة ، وفيما سجّله الرّحّالة الذين زاروها . كما ويُفهم من بعض المنقولات التاريخية أنّ  إنتاجه من القمح خصوصاً كان يصِلُ إلى أماكن قصيّة . ومن ذلك أنّه وُصف بـ "أهراء روما" . حتى أثناء الاحتلال العثماني الوحشيّ للمنطقة ، حافظ السهل وهضابه جزئياً على طاقتهما الإنتاجيّة في الحقلين . ونذكر دليلاً على ذلك ، أنّه بعد أن دمّر فخر الدين المعني "بعلبك" وهجّر أهلها وقطّع أشجار بساتينها وصادر قطعانها ، في نهايات القرن التاسع عشر، ظلّ رجاله وأتباعه مدة شهرين ينهبون وينقلون ما في حواصلها من مُختلف الحبوب الغذائيّة . الأمر الذي يدلُّ دلالةً قاطعة لاريب فيها على أنّ السهل حافظ على طاقته الإنتاجيّة ، بإرادة أهله الصلبة . على الرغم من الظروف السياسيّة المُحبطة طوال فترة الحكم العثماني الطويلة .

والحقيفة أنّ انهيار طاقة السهل الإنتاجيّة ، كما هي اليوم ، لم يحصل إلا في فترة الاحتلال الفرنسي للبلد ، تحت العنوان المُضلّل : "الانتـداب" . واستمرّ الانهيار وتفاعلاته منـذ ما سُمّي بـ "الاستقلال" حتى اليوم . من ضمن خطّةٍ شاملة ، رمت إلى تعطيل الطاقة الإنتاجيّة للسهل وأهله في كافّة الميادين ، وخصوصاً في ميداني الانتاج والعمران . باعتبارذلك العمل جزءاً من سياسةٍ ترمي إلى حصر التنمية في طائفةٍ محظوظةٍ بعينها . بوصفها الطائفة التي جرى اصطناع الكيان السياسي الجديد ، بأطواره الثلاثة المعروفة ( لبنان ، لبنان الكبير ، الجمهوريّة اللبنانيّة ) ، من أجلها . وليكون حصراً في خدمة مصالحها فقط ، على حساب المصالح المُتفاوتة لكلّ أبناء الطوائف الأُخرى من مواطنيه .

غاية هذا البحث أن يُقدّم وصفاً لأبرز معالم تلك الخطّة اللئيمة . وتفسيراً تاريخانيّاً لوضعه المُختلف . كيما يكونا مقدّمةً وحافزاً . وظيفتهما البيان والتحريض على صنوف البلايا التي أنتجتها في سهل البقاع خصوصاً ، وما تزال باقية عاملة على تعطيل وكبح عوامل وعناصر التنمية فيه . بدون ذلك البيان والتحريض ، بوصفهما حافزين على العمل ، ما من سبيلٍ إطلاقاً  إلى الخلاص من تأثيرها السيء المُتمادي . وبالتالي ابتغاء أن تغدو قضيّة وفُـرص التنمية العادلة مفتوحةً فيه لهمّة وعمل المواطنين حيثما كانوا على صعيدٍ واحد .

على أنّ هذا المنهج ليس يعني أبداً أنّ مثل تلك الخطّة قد اقتصرت على السهل فقط . كلُّ ما في الأمر أنّنا نعمل بمقتضى خبرتنا المباشرة ومُعاناتنا الحاليّة . وإلا فإننا نعلم إجمالاً ، أنّه ما من منطقةٍ يعمرها غير أبناء الطائفة المحظوظة في "لبنان" قد نجت من مثل ما أُنزل بموضوع البحث .

( 1 )

من أبرز معالم تلك الخطّة الإحباطيّة ، أو بالأحرى الخِطط ذات الوجوه ، ما يُسمّى بـ "المُخطّط التوجيهي" للمُدُن والبلدان . وهو عملٌ دقيق ، له أهله من ذوي الاختصاص العالي ، تتقاطع فيه السياسة مع همم ومساعي الأفراد وإمكانيّاتهم ومواصفات البلدان . بحيث تضبطها وتوجّهها . الغاية منه توجيه وضبط أعمال وضُروب استثمار المواطنين في إعمار المدينة أو البلد في شروط ومواصفات خاصّة ، من حيث الكمّ والكيف ، بما يتناسب مع مواصفاته ومؤهلاته ومعالمه إجمالاً . فلا يُترك فوضى لا ضابط لها .

ذلك هو المقصد الطبيعي السّويّ للمخطّطات التوجيهيّة للبلدان . ويا لبُعد ما وُضع لبلدان وطننا منها عن هذا القصد .

سنتخذ من "المُخطّط التوجيهي" المعمول به لمدينة "بعلبك" ، بوصفه أنموذجاً على توظيف قضية نمطٍ من تخطيط التنمية ، بما يأول إلى عكس الغاية الصحيحة المرجوّة منها . أي إلى ما قـد يُسمّى ، في اللغة النقديّة للباحثين الأحرار ، بـ "التنمية المعكوسة" . الذي يعني ما عنوانه ومظهره من باب التنمية ، لكنّ حقيقته عكسها . وذلك لغرضٍ سياسي ، بالمعنى السّيء لكلمة "سياسة" . يرمي إلى تأسيس وتمكين الشروط المناسبة لسُـلطةٍ ومجموعةٍ حصريّةٍ بعينها . بعيداً عن توخّي ما فيه المصلحة العامّة للناس .

من المعلوم أن "المخطّط التوجيهي"  لبعلبك قد وُضع أثناء أربعينيات القرن الماضي ،  وما يزال معمولاً به حتى اليوم . أي بعد مرور حوالي الثمانين  سنة على وضعه وإقراره . مع أنّ القانون يقضي صراحةً بسقوط أيّ مخطّط توجيهي بعد مرور خمسٍ وعشرين سنة على إقراره دون تنفيذه ، لحساب مُخططٍ جديد . والحُجّة في هذا الوضع البالغ الشـذوذ أنّه ما من بديلٍ في اليـد عنه .

ومن الواضح أنّنا والطليعة من أسلافنا من أهل "بعلبك" بسكوتهم وسكوتنا ، أو على الأقلّ النخبة منهم ، بالإضافة إلى أجهزة الدولة بالتوالي ، يشتركون في المسؤوليّة عن هذا التقصير الفاضح .

ونذكر بالمناسبة أنّ الشبيه الوحيد لمُخطّط "بعلبك" المشؤوم ، من حيث الوسيلة والمقصد ، وسيكون توصيفه موضع عنايتنا في الآتي من هذا البحث ، كان  المخطط التوجيهي لمدينة "صور" . لكن أهل هذه أسقطوه ، ووضعوا مخططاً آخرصالحاً  لمدينتهم في سبعينات القرن الماضي ، قُبيل انفجار الحرب الأهليّة. ومغازي هذه الحقائق ، سواءٌ من حيث الإقرار ثم الإسقاط فالتجديد ، في مقابل السكوت ، هي في غنىً عن البيان . وعلى كلّ حال ، فإنّ التفصيل الآتي سيفي ببيان ملابساته وعناصره .

( 2 )

من المعلوم  والثابت أنّ المُخطّط التوجيهي الأول للمدينة  قد وضعته سُلطة الانتداب بمرسومٍ تشريعيٍّ . يفتقر إلى العناصر الفنّيّة الاحترافيّة ، التي من شأنها أن تُعلّل عناصره وأحكامه ، وبالتالي الغايات التنمويّة التي يرمي إليها . وهذا وحده كافٍ لوضعه موضعَ الاتهام في أغراضها ومقاصدها منه . لِما نعرفه من أنّ سياسة سُلطة الانتداب الداخليّة ، في هذا الشأن وفي غيره ، كانت محصورةً وبالدرجة الأُولى في منظورها التمييزي الصِّرف .

إنّ النظرة السريعة إلى هذا المُخطّط الأُعجوبة كافية لأن تترك الناظر مذهولاً ممّا انطوى عليه من عناصر، هي بالنظرة الأُولى ينقضُ بعضُها بعضاً. ولكنّ التمعُّن يكشف أنها مُتكاملة ، تودي إلى غرضٍ بعينه لاتعدوه .  

ذلك أنّه ، من جهة ، يراه حافلاً بالمشروعات السّخيّة المُستقبلة ، التي تترك المرء مذهولاً من سخائه . وكأنّ ميزانيّة الدولة ستكون مُسخّرةً لـ "بعلبك" لبضع سنوات . بحيث تجعل منها مدينةً عصريّة بكلّ ما للكلمة من معنى . من شوارع عريضة ، متوازية ومُتقاطعة ، تخترقها من كافة الاتجاهات . من ضمنها أوتوستراد رئيسي دائري يطوف بالمدينة ، بحيث تلتقي عنده وتصدر عنه كافة الطرق الداخليّة ، شأن المُدُن الكبرى . إلى مدينة رياضيّة حسنة التجهيز . إلى "قصر ضيافة" يحتلّ الغابة الصغيرة المعروفة بـ "الخوّام" بجوار متنزّهها . واسم القصر ، فيما قيل ، مُقتبَسٌ من اسم أُسرةً ألمانيّة ، عملت على استثمار الامكانات السياحيّة الهائلة للمدينة . فبنت فندقاً وسط الغابة ، وآخر مُقابل خرائب قلعتها الشهيرة باسم "فندق بلميرا" أي "تدمر" . لكنّ المشروع سقط جملةً وتفصيلاً بالحرب العالميّة سنة 1914 . لكنّ المُخطّطين  أبوا إلا أن يُحيوا الأولَ من المشروعين  ، تحت ذلك الاسم الفضفاض "قصر الضيافة" . وطبعاً بقيت تلك المشروعات بكافة عناصرها حبراً على ورق . باستثناء "المدينة الرياضيّة" التي أقيمت بالفعل ، بحجم ملعب كرة قدم ، قبل مدة غير طويلة .

ذلك التخطيط  السخيّ ، من جهةٍ أُخرى ، يبخل بُخلاً مذهلاً في نِسَب الاستثمار في عقارات المدينة . بأن حصر استثمارها بالبناء عليها في نِسَـبٍ ضئيلة جداً ، ليست تتجاوز في أحسن الأحوال الـثلاثين بالمائة من المساحة الاجماليّة للعقارات ، التي نجت من أن يضربها المخطط بمشروعاته الخياليّة ، بما يحول دون أدنى استثمارٍ لها .

هكذا حوصرت الحركة العمرانية في المدينة . بين تخطيطٍ عشوائي ، يحول دون استثمارمساحاتٍ واسعة في البناء ، بحجّةٍ أو بأُخرى ، من الحُجج الكثيرة التي يوفّرها التخطيط . وبين نسبة استثمار ضئيلة في العقارات التي نجت من مفعوله ، بحيث تجعل من البناء عليها ، خصوصاً المؤسّسي منها ، عمليّةً خاسرة . أو على الأقلّ غير مُثمرة .

( 3 )

ومن الجدير بالذكرفي هذه المرحلة من البحث ، لفائدة المقارنة ، التي من شأنها أن تكشف المقاصد الحقيقيّة اللئيمة من كلا عنصري التخطيط ، أنّ عقارات قرية "عين بورضاي" المجاورة ، التي تتداخل عقاراتها مع عقارات "بعلبك" ، وهي مملوكة لغير أُسرةٍ إقطاعيّة مسيحيّة ، أبرزها آل سكاف ، قد يسّرها المخطّطُ التوجيهي الاستعماري نفسه للاستثمار بكلّ بابٍ ووسيلة . بأن أُعفاها من سيف المشروعات العشوائيّة ، التي تركت "بعلبك" مُمزّقة. كما أمتعها بنِسَب استثمار عالية ، قد تَصِل إلى سبعين بالمائة من المساحة الإجماليّة للعقار. بحيث أننا كثيراً ما نجدُ عقاراً تابعاً لمنطقة "بعلبك" العقاريّة محجورٌ عليه البناء بالمعمول بنسبة الاستثمار الضئيلة . وإلى جنبه آخَـر ، تابع لمنطقة "عين بورضاي" ، يتمتّع بنسبة استثمار ممتازة .

بالنتيجة عالج الناس ، المغلوب على أمرهم ، المُعضلة بطريقتهم . بأن أقبلوا على شراء أراضي "عين بورضاي" ذات المواصفات الممتازة وعمارتها . وهكذا باتت القرية اليوم ، التي كانت في الماضي القريب  أملاكاً شاسعة شبه مهجورة ، بلداً ناهضاً بكلّ المعاني ، إلى جنبها المدينة الأُم العريقة المُضطهدَة ، التي تعمّها الفوضى في كلّ بابٍ ومرفق .

والأمر نفسه ، بكامل مواصفاته ، يصحُّ أيضاً على بلدة "دورس" ، المجاورة أيضاً لـ "بعلبك" من جنوبها الغربي . خلا أن هذه كانت ملكاً لأُسرة (نجيم) المسيحيّة أيضاً . وخلا أنّ من أفراد هذه الأُسرة مَن لايزالون من سكانها . بحالةٍ ممتازةٍ من العلاقات الطيبة المُتعاونة مع أكثريّة سكانها الجديدة .

بالعودة إلى عمود البحث نقول ،  أنّه  بعد أن استُغلق على أهالي "بعلبك"  كلَّ بابٍ للعمارة القانونيّة في العقارات المملوكة لهم إرثاً عن أسلافهم ، أو التي استملكوها بالشراء ، أو يضعون أيديهم عليها ، لم يبقَ لديهم من ملجأ إلا أن يبنوا مساكنهم وغيرها بالطريقة الوحيدة الممكنة ، أي دون اكتراثٍ بـ ( القانون ) ومقتضياته وتصنيفاته . الأمرالذي أودى في نهاية المطاف إلى قيام أحياءٍ بأكملها ، تفتقر إلى الصفة المدينيّة . ومن ذلك أنّها محرومة من شبكات الكهرباء ومياه الشرب والخدمة والصّرف الصحي . لحساب شبكات مُرتَجَلة وحُفَرٍ سطحيّةٍ للصرف الصحي . بما تنطوي عليه هذه وتلك من أخطار صحيّة وغيرها .

( 4 )

سنتخذ من "حي الشيخ حبيب" ، أكبرُ أحياء "بعلبك" ومن أشدّها فاقةً وفقراً ، أُنموذجاً وشاهداً حيّاً على بعض ما أجملنا قصّته أعلاه . من وجوه العمل المنهجي على قطع الطريق على أي فرصة للنموّ العمراني والانتاجي للمدينة . مُستعينين بما نعرفه من تاريخها السُّكاني .

بدأت نشأة الحي في أوائل القرن العشرين ، ابتداءً من أوّله المعروف ، حيث كان سُـور المدينة الجنوبي وقصور آل حيدر الباهرة . بأن تدفّقت على هامش المدينة أُسراتٌ قادمة من مختلف النواحي (عكّار، كسروان ، جبيل ، بعض القرى في الهضاب المجاورة . . الخ.) ، مستفيدةً من شبه الفراغ السُّكاني للمدينة ، على أثر وبسبب اجتياح فخر الدين المعني للمدينة . الذي قضى على إمارة آل الحرفوش الشعبيّة والنبيلة . ونظّم مذابح مهولة بالسكان ، ثم هجّر الباقين أحياء من أهلها ، الذين اتجهت جموعهم الغفيرة إلى "جبل عامل" .

هكذا بدأت المدينة تنمو سريعاً وعشوائيّاً باتجاه شرقيّها ، على جانبي شارع الشيخ حبيب ، حتى بلغ طوله اليوم زهاء الثلاث كيلومترات . أكثر أحيائه محرومٌ من أدنى شروط العيش الصحّي للبشر .

ولقد عملتُ في الماضي على تزويد أحـد أحيائه بشبكة صرف صحّي على الأقلّ ، مستعينا بأحد كبار المسؤولين لدى مجلس الاعمار ، فتمّ ذلك والحمد لله ، بعد مُمانعةٍ شديدة من الإدارة المحلّيّة ، المُتمثّلة بقائم مقام القضاء يومذاك . بحجّة أنّ الحي كلّه "مُخالف" .

( 5 )

هذا الوصف البالغ الإيجاز لمأساة "بعلبك" وأسبابها ، وما انطوى عليه من ذهنيّةٍ تمييزيّةٍ صريحة ،  لم يقتصر على المدينة وجوارها القريب فقط ، بل نراه شمل قُرى وبلدات "سهل البقاع" كلّه .

هاهنا قصّةٌ طريفة تستحقّ أن تُروى بشيءٍ من التفصيل .

ذلك أنّه في السنة 1977 صدرمرسوم بإنشاء شركة مُغفلة باسم "مصرف الإسكان" . عمله إقراض الناس مبالغ ماليّة بفوائد مقبولة لبناء مساكن لهم ، بضمانة استرهان العقار المُزمع البناء عليه لمصلحة المصرف ، حتى تسديد القرض وفوائده .

طبعاً استقبل الناس هذا النبأ غير المسبوق بالسرور. وطفقوا ، خصوصاً غير الميسورين منهم ، يتقدمون من المصرف بطلبات الإقراض . مُرفقَة بالوثيقة ذات العلاقة بملكيّة العقار المُرشّح لبناء المسكن العتيد عليه . الذي سيكون ، كما عرفنا ضمانة المصرف .  

إلى هنا وكل شيْ طبيعي ومقبول ، بل وجيّـد . لكنّ الاستبشار سرعان ما انقلب إلى عكسه . إذ كشف لقطاعٍ كبيرٍ من سكان قُرى وبلدات السهل الواسع ما كان مستوراً عليهم . أن العقارات في السهل إجمالاً هي من نوعين اثنين :

ـــ التي سُكانها من أبناء الطائفة المحظوظة  . وهي مخطّطة ومُفرزَة على أجسن ما يكون . بالإضافة إلى أنّها ذات نِسَب استثمار جيّدة ، تسمح بالبناء عليها .

ـــ الأُخرى التي سُكانها من المسلمين ، وهي الأكثر بكثير جداً ، مُهملة محرومة من أيّ شكلً من أشكال التنظيم . وكثيراُ ما يكون التملّك فيها بصفة أسهم شائعة  في أفضل الأحوال . وقد تقتصر على ما يُسمّى "حُجّة" ، أي ورقة موقعة من شهود أو من مختار البلد . وما من ريبٍ في أن هذا الوضع البالغ السّـوء هو من نتائج إهمالها المقصود منذ بداية التخطيطات التمييزيّة التي ارتكبتها سُلطة الاستعمار الفرنسي .

وطبعاً تقبّل مصرفُ الإسكان الأُولى منهما ، ومنحها القروض المطلوبة . في حين رفض الثانية بحقّ . وقد أثار اكتشاف ذلك التمييز الظالم في حينه ضجةً عالية ، تزعّمها أحد السياسيين المحلّيين ، لم تؤدّ إلى نتيجة كما هو مُتوقّع . وطبعاً لم تنتهِ إلى الحلّ الوحيد الصحيح الممكن . بأن يبدأ العمل على تخطيط وتحديد وتجميل تلك القرى البائسة عقاريّاً ، مع تزويدها بنِسَب استثمار مناسبة وعادلة  .

لكنّ الناس المحرومين من نعمة المصرف سرعان ما اكتشفوا حلّا ذكيّاً بسيطاً لمعضلتهم معه . بأن طفقوا  يشترون  العقارات في القُرى المسيحيّة شبه المهجورة بأثمانٍ بخسة . وسط دهشة أهلها ، وربما أيضاً سرورهم البالغ بهذه النّعمة ، بالإقبال غير المُتوقّع على شراء العقارات الكثيرة في بلدانهم . ليتقدّم المالكون الجُـدُد بهذه العقارات المُستكملة الاوصاف إلى المصرف . وليحصلوا على القروض المطلوبة ، لكن لا ليبنوا مساكنهم على الأرض المرهونة للمصرف ، بل  في قُراهم هم . مع الامتناع عن تسديد الأقساط المطلوبة للمصرف كيما يستمرّ في عمله . تاركين إياه يفعل ما يحلو له بالعقارات المرهونة ، التي باتت لا قيمة لها بالنسبة إليهم ، بعد أن حصلوا على بُغيتهم منها ، فضلاً عن قيمتها البخسة بذاتها . وهكذا دفع المصرفُ المسكين بعد حين ثمن خطيئة وغائلة وخطأ التخطيط الفرنسي الظالم ، دون أن يكون له أيّ يـدٍ فيها . الأمر الذي تتابع بمختلف الأشكال ، على الطريقة اللبنانيّة ذات الصفة الزّبائنيّة . بحيث أودى إلى انهيار المصرف ماليّاً والتوقّـف عن العمل قبل بضع سنوات ، حيث ما يزال .

( 6 )

كلُّ ذلك فيما يعود إلى معضلة التّنمية في مدينة "بعلبك" أوّلاً وخصوصاً ، وثانياً وبالتّبع في "سهل البقاع" إجمالاً.

لكن ها هنا بابٌ ثالث للإحباط التّمييزي الاستعماري المقصود . ميدانه هذه المرّة مدينة ومنطقة "الهرمل" الغنيّة ، شمال شرق "الجمهوريّة اللبنانيّة" ، بحسب آخر حدودٍ لها .

و"الهرمل" اليوم أحد قضائي "محافظة بعلبك الهرمل" ، تبلغ مساحته الإجماليّة 136،4 كيلو متراً مربع . قسمٌ كبيرٌ منه أرضٌ جرداء وجُرود صخريّة ، تتخلّلها بعض الوديان . القسم القابل للزراعة منه ، شبه وادٍ يطيف بالمدينة . مساحته بحدود 15 كيلو مترمربع تخميناً ، لغياب أعمال المسح . وذلك الغياب هو أُسُّ بلائها .

 و "الهرمل" ، وبالخصوص سهلها الواسع الخصيب ، منطقةٌ تتمتّع بمواصفات زراعيّة أُنموذجيّة مُتكاملة . تؤهّلها لأن تجعل منها سلّة غذاء "لبنان" . لخصوبتها ، ولغناها بمصادر المياه التي تكفي لريّها كلّها سيحاً دون جهد . ثم لمُناخها المُعتدل طول أيام السنة ، خصوصاً في فصل الشتاء ، لعلوّها 780م فقط عن سطح البحر . بحيث لا ينالها الصّقيع ، الذي لا تنجومنه أيُّ بقعةٍ سواها من "سهل البقاع" كلّه .

ومع ذلك فإن هذه المواصفات الزراعيّة الممتازة مُعطّلة تماماً .

ولقد كُتب الكثير على "إهمال" المدينة وسهلها ، حتى من قِبـَـل غير وزير زراعة أو ماليّة من الشيعة . هكذا "إهمال" فقط دون تحديد . مع أنّ الحقيقة ، غير الخفيّة على العارف ، أنّ المُعضلة تتجاوز الإهمال بكثير ، باتجاه ما لا ريب في أنّه ، في أساسه وبدايته ، من باب العمل الإحباطي المقصود ، الذي يتجاوز بمفعوله ومراميه كلَّ  ما سـبق لنا  أن وصفناه من ضُروب موانع التنمية في "سهل  البقاع" إجمالاً ، التي عرفنا أنّها وُضعت قصداُ ، كيما تحول دون نموه وتنميتة السّويّة حاضراً ومستقبلاً . ثم غـدت بالتّـزامن ، فيما يخصُّ سهل "الهرمل" ، أمراً واقعاً ، لايسألُ أحدٌ عن أسبابه ، ولا يُقلق أحداً ممّن من شأنهم أو مُهمّتهم أن يعالجوه . فكأنه قدرٌ مقدور ، لانملك نحوه سوى التّسليم .

بدأت حالة السّهل العظيم تُلفت نظري أثناء إشغالي منصب القضاء الشرعي للمنطقة . وذلك عرَضاً ودون قصد ، ضمن معالجة حالاتٍ فرديّة . حبث بانت لي منها ظاهرةٌ عجيبة . خلاصتها أن فلاناً غنيٌّ بما يملكُ فيه من أرضٍ ، أحيانا بمئات الدونمات . لكنّه فقيرٌ عمليّاً لأنه محظورٌعليه استثمارها ، لا لسبب إلا لأنه لا يُعرف أين هي . كلُّ ما في يده عشرات ، وأحياناً مئات وثائق الملكيّة ( الطّابو ) ، بحصصٍ ضئيلة جـداً . ثم بان لي بالتّتبُع ، أنّ هـذه الحالة العجيبة هي شـأن الكثيريـن جـداً من أهـل المنطقة . وكثيراً ما اطلعتُ في البيوت على أكداسٍ كبيرةٍ من وثائق الطابو ، تُثبت ملكيّة أصحابها الفقراء لأسهمٍ كثيرة ضئيلةٍ جداً من العقارات . يحتفظ بها أصحابُها أملاً بأن يأتي اليوم الذي يجري فيه ما يُسمى بـ ( التّجميل ) ، بحيث تأول الحصص الضئيلة إلى حصّةٍ أو حصصٍ قابلة للإستثمار .

السؤال : كيف بدأت هذه الحالة في هذه المنطقة بالذات ، ولأيّ غرض ؟

بالعودة إلى ما تحت يدي من مصادر جمّة ، ذات العلاقة بقضيّة مسح الأراضي في "لبنان" وتاريخها ، تبيّن لي أنّ سُلطات الانتداب الفرنسي قد أولت هذا العمل اهتماماً خاصاً . فأجرت مسحاً شبه شامل لكل الأراضي والعقارات فيه . لم تشمل ، حسب المصادر نفسها ، بعض مناطق غير معمورة في شمال "لبنان". لكن دون أن تأتي على ذكر سهل "الهرمل" ، ضمن ما تجاهلته من أعمال المسح . مع ما للسهل من إمكانيّاتٍ عظيمة . ثم أنّها تقول ، أن قضيّة مسح الأراضي التي أهملتها سلطات الانتدات في الشمال ، هي اليوم موضع اهتمام الدولة. وأنّها لحظت في ميزانيّة سنة 1922 بنـداً متعلّقاً بأعمال المسـح فيها ، وكلّفت شركةً مساحة بذلك .

نخلصُ من هذا السّرد لتاريخ المُعضلة إلى نتائج ، نلخّصها فيما يلي :

ـــ الأُولى : إن تاريخ غياب المسح عن سهل "الهرمل" يرقى أوّله وأصله إلى فترة الانتداب . لأسبابٍ باتت معروفة لدى القارئ .

ـــ الثانية : أنّه استمرّ من بعد طوال قرن من الزمان ، على أيدي الحكومات المُتعاقبة .

ـــ الثالثة : أن هذا الوضع السّيء قد تفاقم طوال تلك المدّة الطويلة ، بالمزيد والمزيد من تفتيت الملكيّات بالتوارث . بحيث انتهت إلى ما هي عليه اليوم من تعطيل للإمكانات العظيمة للسهل كلّه ، كما وصفناه أعلاه . دونما أدنى أمل أو اهتمام بالعمل على تصحيح ما يمكن تصحيحه منها .

( نتائج )

ممّا لا ريب فيه أن المسؤول الأساسي ، عن كلّ هذه الجرائم الموصوفة ، هي سلطات الانتداب . وهي تندرج في كلّ ما قد سبق أن وقفنا عليه من سياستها . التي عملت كلّ مافي وُسعها على تعطيل وكبح أي إمكانيّة للنمو والتنمية لدى سوى أبناء المشروع الغربي المُزمن . ومن ذلك العناية التامّة بمناطقهم وتجاهل غيرها على الأقلّ ، كما رأينا وجوهها فيما فات .

ثم أنّ المسـؤول بالدرجة الثانية هـو الحكومات المُتعاقـبة . التي تابعت ، بقصـدٍ أو بدونـه ، سياسة التّعامي عن الوضع الإفقاري لمنطقةٍ من الوطن بأكملها . بل إلى درجة حرمانه في سهل "الهرمل" خصوصاً من ثروةٍ جاهزة للإستثمار بأقـلّ جهـد . بل وحرمان الوطن كلّه من إمكانيّاته الفريدة السّهلة التناول .

أمّا المسؤول بالدرجة الثالثة ، فهو كلّ الذين سكتوا ويسكتون ، طوال المدّة الطويلة ، على هذا الأوضاع الشّاذّة  ، من الذين شغلوا مواقع تمثيليّة أو مسؤولة .

يبقى السؤال عن العمل في سبيل إصلاح ما أفسد .

هذا نتركه لأهل الاختصاص من سياسيين وفنيين . لكنّنا نرى أن الحلّ الحقيقي المنشود يقتضي وضع قوانين استثنائية مؤقّـتة ، تتناسب مع أوضاعها . تُسندها توجيهاً ورعايةً السلطات المحليّة المُتمثّلة ببلديّات المنطقة .

ـــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

 

 

 

 


الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق لوحة المفاتيح العربية
رمز التأكيد