أسطورة يزيد بن معاوية
جعفر المهاجر
من أبرز مشكلاتنا ذات البُعـد الثقافي ، وفي صورتنا عن ذاتنا عند ذواتنا ، أننا أُمّـة ليست تملك تاريخاً مكتوباً . إذن ما شـأن تلك المصنّفات الكبيـــــرة التي تحمـــــل اســــم "تاريخ" مثــــــل (تاريخ الرُسُل والملوك) للطبري ، و (الكامل في التاريخ) لابن الأثير ، و (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي ، و تاريخ اليعقوبي وغيرها كثير .
نقول في الجواب ، إنّ هذه كلّها كُتُب أخبار . وليست تأريخاً بالمعنى الكامل للكلمة . وإن تكُن تُقدّم مادةً خاماً ، يمكن للمؤرّخ المُتمكّن الصّبور أن يصنع من بعضها تاريخاً .
ونحن ننفي عن تلك الأخبار صفة التاريخ لسببٍ بسيطٍ . هو أنّ التاريخ لا يحدث على هذا النحو . أي أحداثاً منفصلةً بعضها عن بعض . بل يأتي ضمن سياقٍ متصلٍ له منطقه الدّاخلي . اكتشاف السياق المفقود وإعادة تركيبه على يـد الباحث هو العمليّة التأريخيّة حقاً . أمّا ما سواها في تلك الكتب من أخبار، فهو ، ككلّ رواية ، قد تعكس رؤية وحوافز الذين رووها . وخصوصاً الرّاوي أو الواضع الأول وحوافزه وموقعه ......الخ. ولذلك فإنّها بصورتها الحاضرة تصلح بالدرجة الأُولى لقراءة التيارات المتنوّعة ، من نسَبيّة أو سياسيّة أو دينيّة فقط . وإن هي قد تصلح بالدرجة الثانية لكتابة تاريخ ، بالمعنى الحقيقي للكلمة ، إن هي أُتيح لها مَن يُركّبها كما حصلت . يعني في القصّة السياق التي تختبئ وراء تلك الأخبار .
التاريخ هو ، تماماً كما وقع بالفعل ، قصّةٌ مُترابطة . وليس كما تنقله كُتُبنا (التاريخيّة) أخباراً منفصلة .
إذن ، ما الفرق في ظلّ التّماهي بين الاثنين : ما دام التاريخُ أخباراً . والأخبار يمكن أن تكون تاريخاً ؟
الفارق بالنسبة للقارئ اللبيب يكمن في أنّ القصّة . لها منطقها الداخلي ، الذي يمنحها القابليّة للفهم وللنقد . فيقبلها المُتلقّي أو يرفضها استناداً إلى منطق الأشياء ، وإلى معرفته بالسياق الذي حصلت فيه . وكلما نمت معرفة القارئ بالسياق ، كلما اكتسب مقدرةً إضافيّة على نقد القصّة . ذلك هو ما تفتقر إليه الأخبار . وذلك هو ما يجعل من مهمة تطييف التاريخ ، وتزويقه بما يتناسب مع مقاصد كاتبه ، كما هو عندنا الآن ، في الغاية من السهولة .
من هنا فإنّ وظيفة المؤرّخ الحقيقي هي أن لا يكتفي بعملٍ انتقائي ، بنقل واعتماد ما يناسبُ الفكرةَ المُسبَقَة التي لديه من تلك الأخبار . بل أن يُعمل المادة التي تقدمها لنا هاتيك الكُتُب ، ذات العلاقة بتركيب القصّة . فإذا هو نجح في عمله فقد يسقط (تاريخٌ) كثير ، ممّا أتانا أخباراً أخباراً ، ويغدو هباءً منثورا .
من هاتيك الأخبار الفكرة الجاهزة ذات العلاقة بالشخص والسيرة المزعومة لمَن تُطبِقُ الأخبار على أن تُسميه "يزيد بن معاوية" . وتقول أنّه هو الخليفة الثاني من البيت الأُموي السفياني . كما تنسب إليه كبائرَ الأعمال وأفظعها . مع أنّ هذا المُسمّى بهذه المواصفات والأعمال لم يوجد قط ، عند مَن يُخضعها لمنطق القصّة وقوّتها النّقديّة .
في سبيل بناء القصة الحقيقية لهذه الإشكاليّة ، علينا أن نعملَ على بناء السياق التاريخي الثابت للقضيّة موضع البحث من عناصر السّياق ، عنصراً عنصرا .
1ــــــــــــ العنصر السياسي الأساسي من السّياق المفقود هو المعاهدة الخاضعة التي عقدها الخليفة عمر بن الخطاب مع الدولة الروميّة العدوّة . التي قضت بأن يكون لها كامل خَراج المنطقة الشاميّة الغنيّة . مقابل أن تكفّ عن محاولة استعادتها من العرب بالقوّة . ليس بنحو أن تتولّى أجهزةُ الدولة الإسلاميّة الجباية ، ثم تسدّدها بوسيلةٍ ما للخزانة الروميّة في "القسطنطينيّة" . بل بأن يتولّى كاملَ المهمّة جهازٌ كبيرٌ مُحترف ، تعيّنه الدولة الروميّة . مهمته الكشف على كلّ مصادر موارد الخراج ، وتعيين قيمته واستيفائه وجمعه . ومن ثمّ تسديده لخزانة الدولة الرومية في عاصمتها . الأمر الذي يعني إنشـاء دولة داخل الدولة الإسلاميّة الأُمّ . تأتمر للدولة الروميّة حصراً . أي أن الروم قد حصلوا بالسّلم على ما عجزوا عنه بالحرب التي كانوا يُعدّون ويستعدّون لها . وبالفعل عيّن الروم شخصاً لإدارة المهمّة ، ذا تجربة سابقة معهم ، اسمه منصور بن سركون . يتبعه جهازٌ كبيرٌ محترف . ثم تلاه في المنصب بعد بضع سنين ابنه سركون . بعده ابن هذا ، الدّاهية منصور الثاني . الذي سيكون لنا وقفة خاصة عنده في الآتي إن شاء الله .
والحقيقة أنّ المرءَ ليعجب لحماسة عمر لهذه السياسة بالذات . إلى درجة أنّه في سبيلها تجشّم مشقّة الحضور بنفسه من "المدينة" ، ليقيم مدة غير معلومة في "الجابية" ، لم تكن قصيرة . حيث جرت المفاوضات مع مبعوثي الدولة الروميّة . مع أنّه كان في وُسعه لو شاء أن يعمل على حماية المنطقة عسكرياً ، وهو الذي لم يكن يشكو من ضعف . بل كانت عساكره تجتاح ماحوله من البلدان غازيةً محتلّة . بل وفي سبيلها ضحّى بالوالي الفعلي على "الشام" يزيد بن أبي سفيان . الذي رفض هذه الصيغة الخانعة ، أنفاً منه أن تكون ولايته منقوصة شكليّة . فجرى التخلّص منه بقتله . وغُطيت الجريمة بالقول أنّه توفي بالطاعون ، أي قبل مجيء عمر إلى "الشام" . مع أنّ من الثابت أنه عندما قدم عمر إلى "الشام" كان الوالي المقتول حيّاً يُرزق . وكان وباء الطاعون قد انتهى . بحيث بات قدوم الخليفة آمناً من جهة الوباء . وإن لم يُذكر أنّ الوالي الفعلي قد شارك في نقاش المخرج الأفضل من الأزمة ، التي دعت إلى قدوم الخليفة بنفسه لمعالجتها ، كما تقتضي الأُصول . وذلك لأسبابٍ واضحة . هي أن المطلوب الزّعم ، حسب الخطّة المرسومة ، أنه كان قد مات .
أمّـا أخو الوالي الأصغر سنّاً معاوية ، فقد كان من نمطٍ آخر من الرجال . ما من مشكلة عنده في قبول اسم الولاية ، مهما تكُن مجزؤةً أو شكليّة . بل وحتى لو أتته ملوثّةً بدماء أخيه . مُكتفياً براتبٍ لنفقاته الشخصيّة ، يُصرَفُ له من الخزانة المركزيّة في "المدينة" . مقداره ثمانون ديناراً شهرياً . لأن الإدارة الإسلاميّة لـ "الشام" كانت فقيرة ، كلُّ درهمٍ من دَخْلها يذهب إلى الخزانة الرّوميّة في "القسطنطينيّة " .
ذلك هو العنصر السياسي الأساسي في القصة التي نعالجها .
2 ـــــــــــ العنصر الثاني : ما دمنا نعالج قضيّة مَن هو ذلك المُسمّى (يزيد) ، الذي ولي منصب الخلافة بعد معاوية ، وهل هو حقاً ابنه ؟ فإن علينا أن نرجعَ بالقضيّة إلى منبعها . أي إلى (الأب) المزعوم معاوية . كيما نرى هل من الممكن أن يكون ذلك الـ "يزيد" حقاً ابناً له ، على ما تتطابق عليه الأخبار . أم أنّ معاوية قد أُلبس هذه الصفة إلباساً . حتى دون أن يدري ؟
في سبيل هذا المطلب نقول :
من المعلوم ، عند كل الذين من شأنهم أن يعرفوا ، أن معاوية كان في كلّ حياته منصرفاً تماماً عن النساء . وأنه حتى أثناء شبابه لم يُنجب ، بالزواج أو بغيره ، يعني من ملك اليمين . كان الطعام هو حبّه الوحيد . الذي قتله في النهاية شـرّ قتلة . وأنّه ، منذ أواسط عمره على الأقلّ ، اكتسب في جسده سُمنةً وكرشاً هائلاً ، كان يمنعه من الجلوس كسائر البشر . فكانوا يضعون تحته وسادةً وثيرة يجلس عليها . وأُخرى تحت كرشه الكبير ، ليحمل وسطه البشع المُتدلّي بين يديه و أمامه .
إنسانٌ كهذا يستحيل أن يُنجب حتى لو أراد . وعليه فإنّ ما تقوله بعضُ الأخبار المصنوعة بالتأكيد ، أنه أنجب في كهولته ولدَين اثنين من زوجتين توفيا صغيريَن . هو خبرٌ عارٍ من الصحّة . موضوعٌ لغرضٍ لا نعرفه . ولعلّه لمُجرّد إثبات أنّ الرجل كان دائماً قادراً على الإنجاب ، حتى في سنّه العالية . إذن وبناءً عليه ، فما دام قد أنجب في كهولته ، فما من غروٍ في أن يكون قد أنجب في شبابه . يعني المُسمّى (يزيد) . لأنه المثال الوحيد للإنجاب المزعوم المطلوب إثباته .
هذا يدلُّ ضمناً على أن مشكلة بُنوّة (يزيد) لمعاوية كانت مطروحة بتاريخٍ مُبكّر ، في حياة أو بُعيد وفاة معاوية . ولذلك جرى ترقيعها بتلك الوسيلة الغبيّة .
3 ــــــــــــ العنصر الثالث في تشكيل السياق . هو ماتسوقه مختلف المصادر . على نحو ما تسوق الأخبارَ الطريفة .
خلاصتها أنّه في تاريخٍ غير مذكور ، لكن بعد أن بات معاوية خليفةً على الأرجح ، حضر إلى مجلسه في "دمشق" جمعٌ من أهل "حوّارين" . وهي بلدة في البادية الشّاميّة ، قرب آثار مدينة "تدمر" التاريخيّة . أهلها من النصارى . يصطحبون فتاةً برسم الهديّة لمعاوية . وطبعاً تقبّلها الرجل ، كما تقتضي اللياقة . وأمر بحملها إلى حيث تكون مع حريم القصر.
ولكن ما مرّت مدة قصيرة حتى عاد الوفد ، كأنّما ليطمئن على وضع فتاتهم في حياتها الجديدة . وبالسؤال عرفوا أن الوالي لم يـرَها منذ أن تقبّلها ، وأنّها باتت من ضمن مجموعة الحريم للخدمة وغيرها . أي أنّه لم ولن يكون له أيَّ شأنٍ معها ، مثلما يكون بين الرجال والفتيات الجميلات اللواتي طوع رغبتهم . فأعادها إليهم بنــــــاءً على طلبهم .
إلى هنا و الواقعه عاديّةٌ جداً . لا تستحقّ الذّكر إلا لطرافتها . لولا أنّ الوفد نفسه عاد بعد مدة ليقول لمعاوية ، بمسمعٍ من حضور مجلسه ، فيما يبــــدو ، إنّ الفتاة حامل . ولسنا ندري بــــــــمَ أجاب الرجل على هذا الكلام المُبطّن . والظاهر أنّه سكت ، باعتبار أنها ، وإن هي كانت ضمن حريمه ، لكنّه لم يمسّها . بل ولا يقدر على مسّها ، كما يعرف الجميع . ولعلّه لذلك لم يعلّق كبيرَ أهميّةٍ على ما قيل . ومن المؤكّد أنه لم يعرف أو يسمع بتطورات الواقعة فيما بعـد . خصوصاً بعد أن انشغل بنفسه ، إثر إصابته بشللٍ نصفي ، تركه طريح الفراش . تطوّر بسرعة إلى ظهور قروحٍ مؤلمةٍ جداً انتشرت في جسده ، (العقر) . نتيجة الخلود الطويل إلى الفراش . جعلت من حياته جحيماً لا يُطاق . بحيث انفضّ عنه الجميع جرّاء صراخه الدّائم ألماً . إلى أن مات ميتةً حقيرة ، لم يحزن عليه أحـد . إلى درجة أن لا أحـد من الشيوخ الكثيرين في "دمشق" تقدّم لأداء صلاة الميت عليه . فصلّى عليه قائدُ حرسه ، وولي دفنه مع بضع رجال من عسكره . ليس في مقبرة المدينة الكبرى المعروفة . بل في غرفةٍ حقيرة في أحد أزقتها . معروفة حتى اليوم .
الآن علينا ، بوصفنا مؤرخين حقيقيين ، أن نُركّب تلك العناصر الثلاثة في صورةٍ واحدة تجمع عناصرها الثلاثة ، بحيث تُنتج الصورة التي عملتْ على إنتاج شخص حمل وما يزال اسم (يزيد) .
وعليه نقول :
في تلك الفترة . خصوصاً بعد العجز الجسدي التّامّ لمعاوية . بات عميلُ الدولة الروميّة ، ومندوبها المُطلق الصلاحيّة في شأن الخراج آنذاك ، منصور بن سركون / القدّيس يوحنّا الدمشقي فيما بعـد ، السُّلطةَ الوحيدة العاملة في "دمشق" . والمُمسك الوحيد لكل درهم من الماليّة العامّة . فقبض على ناصية السُلطة بكلتا يديه ، وبالخصوص إبّان حياة معاوية في السنتين الأخيرتين من عمره ، المنقوصة بعجزه التّامّ . وما من ريبٍ في أنّ هذا الوضع إجمالاً كان قُـرّة عين أكثريّة سكان "الشام" غير المسلمين .
في هذه الأثناء يبدو أنّ منصور كان قـد بدأ يُعـدّ ويستعدّ لليوم القريب القادم الذي سيموت فيه الخليفة . خصوصاً في ظلّ أنّ هذا المسكين لم يترك وريثاً من صُلبه . ولا حتى من البيت السفياني . الأمر الذي إن هو عولج بالطريقة المُعتادة . أي بالمجيء بخليفة من البيت الأُموي الآخَر المرواني ، مثلاً . فذلك يعني النهاية المحتومة للفترة الذهبيّة لمنصور ، وستنتهي أيامه المؤاتية ، التي تمتّع أثناءها بالحكم المطلق لـ "الشام" كلّه .
في ظلّ هذا الوضع الدقيق . تكتملُ الصورةُ بالفتاة الهديّة لمعاوية قبل بضع سنين ، ميسون الكلبيّة وحملُها . لنقول أنّها ولدت ابناً في بلدها"حوّارين". عاش وشبّ فيها ، تحت الرّعاية التّامّة لمنصور ، حتى بات شاباً . ونحن نعرفُ أنّ من صنوف الرعاية التي بذلها له ، أنـه بنى له فيها بيتاً من جملته كنيسة . ما يدلُّ على نمط الرعاية والإعداد الذي تلقّاه الفتى . وعلى نمط شخصيّة الشابّ التي كان مربيه الدّاهية يبنيها . فضلاً عن إغراقه بالشّهوات من خمرٍ ونساء . بحيث ظلّت مطلبَ حياته الوحيد طولَ عمره القصير .
في ظلّ هذه الصورة ، وصل منصور إلى لحظةٍ خلاصتها ، أنّه بينما كان الخليفة يقترب من لحظة الوفاة ، كان هو في "حوّارين" ، يُعدُّ ويستعدّ لعملٍ انقلابي ، يضمن له البقاء على سُلطته المُطلقة . فما أن أُعلنت وفاة الخليفة ، حتى اجتاحت "دمشق" مجموعاتُ كبيرة من أهل "حوّارين" بسلاحها ، "رافعين أعلامهم وعلاماتهم" ، حسب عبارة ابن عساكر في (تاريخ دمشق" . وأعلنت إبن ميسون الكلبيّة الخليفة . دون اعتراضٍ من أحـد . لكن تحت اسم (يزيد بن معاوية) .
هكذا تشكّلت الصورة السياسيّة التي ستستمرّ زهاء الخمس سنوات التالية : (يزيد بن معاوية) خليفة . ليس له من الأمر شيء . حياته غالباً خمرٌ ونساءٌ كما يشاء وأكثر . وأديار "الغوطة" الكثيرة مواطن حياته الأثيرة . بما فيها من فتيات . وأطيب الخمور تُهيّأ لأمير المؤمنين . أمّا السلطةُ بأكملها فهي للقديس يوحنا الدمشقي . الذي احتلّ قصر "الخضراء" . وجعل من قاعته الرئيسة مجلساً برئاسته . يحضره أهل العمائم واللحى . ليستمعوا له وهو يسخر من نبيّهم وقرآنه . ويناقش فكرة أُلوهيّة المسيح . مناقشات ما تزال مُسجّلة حتى اليوم . دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة . تحت طائلة الحرمان من عطاءات القديس يوحنا ، فضلاً عما يُمكن أن يُنزله به من صنوف الأذى . ونقول هنا بسرعة أنّه الذي نظّم وهندس وخطّط يوم "كربلا" . وهو الذي بعد أن أعطت شهادة الحسين (عليه السلام) ثمراتها اليانعة . فأيقظت الناس على حقيقة ما يجري . عمد هو من جانبه لأن يجتاح "المدينة" بعسكرٍ أكثره من نصارى "الشام" . ارتكب فيها من الأفاعيل ما يشيب له الوُلدن . لكن هذه قصّةٌ تستحق بحثاً برأسه .
وأخيراً لم يبقَ له ، بعد أن شفى قلبه بما استطاع وافتُضح أمره ، إلا أن ينجو بحياته . فجمع كل ما تحت يده من أموال الخراج وفرّ هارباً باتجاه "سيناء" ، حيث الطريق الوحيد الآمن بالنسبة له . ليصل إلى كنيسة على الساحل فنزلها ، وفيها عاش بقية حياته ، وفيها دُفن . وقبره فيها معروف . ولكنه في الأثناء أنفق كل ما تحت يده من أموال منهوبة على جعل الكنيسة كاتدرائيّة فخمة ، كما هي اليوم . حملت وما تزال اسم "كاتدرائيّة القديسة كاترين" .
يبقى أن نقول كيف انتهى يزيد بن ميسون ، كما انتهى سيّده . مع أننا لسنا نجد أدنى إشارةٍ لذلك في الكُتُب .
لكن شاعراً مجهولاً رسم ببراعة صورةً حيّةً لمقتله على أيدي أُمويين . مُمتلئين غيظاً ممّا زجّه في أُسرتهم . والحقيقة أن شعراء مجهولين زوّدونا بمعلومات رائعة عن تلك الفترة العصيبة . لكنهم جميعاً شعراء مجهولين خشيةً على حياتهم . ولذلك يُسمّون في تاريخ الآداب بـ "شعراء المُكتّمات" . جمعنا ودرسنا قسماً وافراً من شعرهم في كتابنا (الشعر الحسيني المُبكّر) .
قال الشاعر :
يا أيها الرجل المغلّق بابـــــــــــــــه حصلت أُمورٌ شأنهنّ عظيمُ
قتلى بحـــــــــــــــــــــــرّة والذين ببابلٍ و يزيــــــد أُعلـــــن شأنه المكتومُ
حضرت منيّته وعند وساده كــــــأسٌ وزقٌّ راعـــــــفٌ مــركــــــــــــــــومُ
ومُرنّــةٌ تبكي علــــــى نشـــــوانةٍ في الصُّبح تقعد عندها وتقومُ
وهكذا مات ميتةً كالحياة التي أحبّها بين الخمر والنساء .
وما من شكّ في أن الشأن الـ "مكتوم" لـ "يزيد" هذا ، حسب قول الشاعر ، هو أنه في الحقيقة رجلٌ نصراني من أهل "حوّارين" . ليــــس لــــــه أدنى علاقة بالبيت الأُموي . هو الذي ارتكب منصور باسمه جريمة "بابل" ، أي "كربلا"، وفظائع يوم "حرّة" في "المدينة" ، الأمرين العظيميّن اللذين ارتكبهما يزيد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ